تستوقفنا المحطة الدستورية بكل ما تحمله من آمال الدولة المرجوة، فصار الجميع يؤثر بذل الجهد والبدار في إنجاح الرهان الدستوري المرتقب، وهذا يدعو إلى تأمل اللحظة الراهنة.
إن الإرادة الشعبية عبر تاريخ السياسة والدول، كانت ولا تزال وحدها مَن تحوّل الحاكم مِن مسؤول على منظومة حكم، إلى مسؤول يتسلط باسم منظومة الحكم، أو تحفظ السلطة من الهيمنة بمختلف صورها، وعليه فإن معضلة صناعة الاستبداد السلطوي هي رهينة بالميثاق الأساسي
الذي يتعاقد عليه الشعب مع من يحكمه، وهو ما عانت منه الشخصيات الوطنية النزيهة في فترات اضطلاعها بالمسؤوليات الموكلة، لذلك فإننا من صميم التجربة الديمقراطية لهؤلاء الذين خبروا دواليب الحكم وما يتخلق في أتونها من تصرفات، نعي تمام الوعي بأن روح القوانين هي الضمانة التي يستلهم منها الشعب تصوره في بناء مؤسسات تقيد الأشخاص، وتخلق التوازن الفعلي بين السلطات، وتحول دون استعمالها كمطية للسلطة الفردية، من خلال إسهام الجميع كل من مكانه في تجسيد جمهورية المؤسسات ودولة القانون مادام الشعب مصدرا للسلطة.
لقد مثل الحراك الشعبي نقطة تحول في مسيرة النضال عبر تاريخ الجزائر المعاصر، وعكس عبر مسيراته السلمية الأولى صورة حية لإرادة الجماهير وهي تنحو إلى دولة الحرية والعدالة بعيدا عن أية وصاية سياسية قادته لذلك، وكان في بدايته بمنأى عن التجاذب السلطوي بين الأحزاب والتيارات الإديولوجية، كما كان سيد قراره في الانتفاضة على الأوضاع التي عرفتها البلاد بشكل متراكم، فأسقط بذلك جميع الإدعاءات التي تنسب خروجه إلى جهة أو تيار بعينه، ورفض جميع الندءات التي ادعت تمثيله أو استعمال قوته في بناء مرحلة سياسية لاحقة، مما نجم عنه بناء على النوايا الخيرة، هذا المنجز الديمقراطي المتمثل في تنظيم انتخابات رئاسية نجحت بلادنا من خلال القوى الوطنية في توفير ظروفها الموضوعية، ثم كللت بالنجاح حيث لا زالت كل القوى الوطنية تعكف على استكمال خطة عمل وطنية من أجل الجزائر.
لقد كان للشركاء المتعاونين حلقات نقاش متعددة لتفعيل السبل المفضية إلى إلتفاف الشعب حول الاستفتاء الدستوري مهما اختلفت رؤاهم حوله، ، وأصغت بكل عناية لتطلعات الشعب من قبيل مناداته بتوسيع التمثيل الشعبي وضمان تحقيق الإرادة الشعبية في كل القطاعات والإدارات، وفق آليات مرنة وحقيقية، تفرز تطلعات الشعب وتعزز من مشاركته في شؤون الإدارة، من خلال التفويض الشعبي في تسيير المؤسسات عبر السلوك الإنتخابي بدل التعيين، كما أصغت لتلك النداءات العريضة التي تطالب بحماية الحقوق والحريات المستحقة والأصيلة من سطوة الإستعمال المفرط للسلطة التنفيذية وقيودها القانونية، ووضعها في إطارها التشريعي الأصلي، عبر تعزيز المساواة و تنظيم حياة الأفراد من خلال عدم المفاضلة بين الفرص، وكذلك الأصوات الداعية إلى تجسيد مبدأ الفصل بين السلطات وضمان توازنها من خلال المراجعات الدستورية التي تضمن استقلالية المؤسسات، وفق نموذج متكافئ للحكم الديمقراطي، تتقيد فيه السلطة التنفيذية بتنفيذ السياسات التي يضعها الجهاز التشريعي، وتلتزم فيه السلطة القضائية بتحقيق العدالة من خلال الفصل بين أشكال النزاع لدى المواطنين والمؤسسات.
وتأسيسا على ذلك فإن الإنحياز الحقيقي للاستفتاء الدستوري هو الانخراط في أرضية منظمة لتحقيق أكبر قدر من المشاورات بعيدا عن مصادرة الأفكار واستبداد كل ذي رأي برأيه، ونأيا بالمواطنين عن المزايدة في البطولات الفردية، وهو ما تسعى إليه القوى المعتدلة في هذا الظرف حيث يكون كل مواطن رائدا جمهوريا لتجسيد جمهورية المؤسسات والتغيير عبر المسؤولية التي يشغلها في مجتمعه، وإسهامه الواعي في وضع دستور جامع يجمع الجزائريين قاطبة دون ألغام.
ليست هناك أية فضيلة وطنية في الانصياع للتحشيد وتغذية الصراع بين المواطنين وعسكرتهم في أتون العداوة المتبادلة بين الأغلبية والأقلية ضمن هذا الجدل الدستوري الصاخب الذي يسبق موعد الاستفتاء حول تعديل دستوري جديد يضاف للنصوص الدستورية الكثيرة التي عرفتها البلاد في مؤشر لافت يدعو إلى التأمل في أن عدم استقرار الدساتير يوحي بعدم استقرار النظم.
ما يحدث ضمن هذا النقاش في الجزائر تجاوز فكرة الإصلاح الدستوري عبر التعديلات المتعلقة بتحسين آليات الحكم وضمان الحريات والممارسات الديمقراطية، وبقي رهين لغط الهوية بين مكونات شعب عجز أفراده اليوم عن تقديم نموذج تفسيري يقوده لبناء جزائر جديدة خارج تبني مفهوم " الدولة الأمة " الذي أثبت في كل مرة أننا شعب متجانس يقع دائما فريسة لصراع تكتلات تاريخية تقوده قسرا إلى أمة متنافرة العناصر.
التمثلات الإجتماعية التي تؤسس لبناء الهوية جعلت الاختلاف هذه المرة بين طرفي نقيض، حيث يلوّح المصوتون بنعم بالورقة البيضاء بدوافع كثيرة أبرزها السماح للجيش ببناء استراتيجية للأمن القومي الاستباقي بنقل وحداته خارج الحدود حسب المقتضيات ضمن إطار سيادي مستقل عن النزاعات، زيادة على ذلك فإن العازمين على التصويت بنعم يفعلون ذلك من منطلق وجود مواد ترسم للتعدد اللغوي الرسمي، وتتيح هامشا للحريات الديانية ووضع بلديات من الوطن ضمن الوضع الخاص وتحييد المدرسة عن الإديولوجيات، وبالمقابل النقيض فإن المصوتون بلا يعقدون النية لملء الصناديق بالورقة الزرقاء من منطلقات عديدة، أبرزها سد الطريق أمام مأزق اللامعرفية في تأصيل الخصوصية اللغوية لبعض اللهجات المتداولة، ووجوب التمسك باللغة العربية لغة رسمية وحيدة مع دعم وترقية تلك اللهجات المتداولة إلى لغات وطنية غير رسمية، وينظرون إلى المأزق اللغوي بين الوحدة و الإختراع التعددي بمثابة إكراه ديمقراطي يتم فيه تحقيق مكسب لغة غير جاهزة من خلال التلصص الديمقراطي عبر أسمى وثيقة قانونية تحكم الشعب، ويرون في محاولة فرض لغة غير جاهزة باعتراف أصحابها وتفتقر للمعيارية بين اللهجات المتداولة بمثابة دس وإقحام ليس بعادل لفكرة غير متفق حولها في إطار المواد الصماء وتحريم النقاش العام بشأنها، ومنه بدل أن يطغى الحوار البنائي على مآلات التعديل الدستوري، ذهب مذهبا جدليا في تيمة الهوية واللغة والعودة إلى من وضع قدمه على هذه الأرض ومن تكلم أولا من الأسلاف قبل الآخرين.
لا يتشكل الحل الديمقراطي مع الذي في قلبه مضغة استبداد عنصري تدعو الآخرين إلى الديمقراطية ويكفر هو بروحها وبمبادئها العادلة، فلا يمكن للعنصرية بمختلف تمظهراتها اللغوية أو العرقية أو الإيديولوجية أن تفرض بنود العقد الإجتماعي من منظور استعلائي يهدم شرعية التعاقد الديمقراطي داخل المجتمع حيث تكون التعددية مدعاة للتعايش بدل الصدام، وهكذا فإن المسودة المسدودة التي تم عرضها للتصويت خلقت توجها استرضائيا أوقعها في العبث بالمبادئ الدستورية بدل وضع دستور يكون فيه أفراد الشعب سواسية في بناء الإرادة الوطنية.
إن التمترس والإختباء وراء مفهوم التوافق القهري بالقفز على معيار العدالة الديمقراطية الواضحة المعالم، لن يخلق دستورا مبنيا على المصلحة العمومية المجردة، بل يؤسس للانقسام بدل الاختلاف، ويزيد من إضفاء الوضع الخاص على بعض المكونات الاجتماعية بدعوى التوافق، ما من شأنه على الواقع أن يزيد من اللاعدالة الوظيفية كما هو حاصل بخصوص منح الأقليات نوعا من التمييز المفرط الذي أدى إلى الابتلاع الإداري وهو ما يتناقض مع مبادئ الوظيفة العامة ويهدم منطق المساواة أمام الوظائف في مفارقة ديمقراطية رسخت ضياع حقوق الأغلبية.
إن الاضطلاع الواقعي بتجسيد العدالة الدستورية التي تضع قطار الديمقراطية في سكته الصحيحة يقتضي أن تكون المراجعات التأسيسية لأسمى قانون في الدولة قائمة على عدم الوقوع في فخ الاسترضاء لجهة دون غيرها أو وأد المواطنة بالعزل السياسي أو الانصياع وراء الهتاف باسم الدين وحرق الحناجر بالحمية اللغوية الإقصائية أو المفاخرة العمياء بالعرق الشريف، كما أن الجدية في إيجاد دستور موضوعي تتطلب حوارا صريحا يتجاوز استلام المبادرات الورقية إلى ورشات محلية تعمل على الإثراء والمناظرات بدل تحويل النقاش إلى صدام عقيم، وليكن شكل الحكم على أية صيغة تتفق حولها غالبية الشعب من منظور المواطنة الأصيلة والمحصنة من أي تغلغل للروح الفرنسية أو الأجنبية، فذلك ما يقود إلى دستور نابع من صميم الشعب ويفتح بابا للتنمية الملموسة بعيدا عن الاستمرار في الريع التداولي أو الإصغاء لسماسرة الهوية.
إن استفتاء الشعب في التعديل الدستوري يمنح للمواطن حق التقرير في أهم وثيقة للحكم، وإذا ما تم رفض هذا التعديل فإن البرلمان سيحل وجوبا ليتم عرض مسودة تحضى بالقبول والموافقة الشعبية على برلمان جديد، من أجل ذلك سيظل الأمل قائما في طريقنا للوحدة الوطنية والحرية المسؤولة.
مروان طيب بشيري