انتكاسة المثقف الجزائري في ظل غياب الحواضن النخبوية وطغيان نموذج المثقف الانسحابي جعل الساحة الجزائرية فارغة وتشجع على اغتراب النخب نظير اختيارها لانسحاب ملحوظ عن الخارطة الجمعوية، واكتفائها بالنقد الكتابي في أحسن الاحوال، تلاحظون أني أتكلم عن الخارطة الجمعوية بدل استعمال مصطلح المجتمع المدني للتوقف قليلا عند التباس مفهوم المجتمع المدني بالحركة الجمعوية، لأن الاشتراطات القانونية تجعل من تنظيمات الحركة الجمعوية تقوم على محدودية التأثير ويخضع كل تنظيم إلى حدود داخل قطاع واحد، فيصبح من منظور القانون الجمع بين قطاعين
كالجمع بين الأختين فلا يمكن لجمعية أن تكون دينية واقتصادية في نفس الوقت مثلا، ذلك ما يعكس ضبابية المفهوم المستجد للمجتمع المدني لدى الكثير من الناس، والذي يضم تحت عباءته العديد من الكيانات السياسية والإجتماعية كالجمعيات والأحزاب والنقابات والتعاونيات والنشطاء المدنيين، لدرجة أنه أصبح من الضروري إعادة ضبط المفاهيم المتداولة في المجتمع الجزائري وتحجيم هذه الجمعيات والتنظيمات التي ليست سوى فرع وامتداد لمفهوم أشمل وأعم وهو المجتمع المدني.
حتى مفهوم المجتمع المدني لدى العديد من الهيئات الوطنية، ورغم حصره في الجمعيات، أصبح يحتل مغالطة أخرى تتمثل في المفاضلة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي حين يضع الأحزاب كغريم وعدو للحركة الجمعوية، وهو مفهوم خطير بدأ يتجسد من خلال انتقال حظر الممارسة السياسية على الجمعيات إلى تعامل مؤسسات الدولة مع المكونات الجمعوية نكاية في الأحزاب التي تشكل قلقا للسلطة، وهو ما يقود إلى مراجعة جوهر العلاقة بين الحكومة والمجتمع المدني، هل هي علاقة شراكة أم تبعية؟
إن إفلاس المنظومة الحزبية بحاجة إلى إنعاش عاجل وليس بردمه تحت أقدام الحركة الجمعوية التي لها أدوار أخرى تضطلع بها في سبيل مجتمع جزائري متجانس إلى ضمان استمرارية تجانسه ، فالمجتمع المدني هو البذرة التي لا تنبت إلا في تربة سياسية تتغذى من ملح الديمقراطية بمختلف معادنها، فليس هناك عدوان قائم بين التركيبتين، وليست هناك تركيبة تلتهم الأخرى طالما هناك نظم تؤطر عملهما داخل المجتمع.
العائلة الشعبية اليوم وفي ظل ما تشهده من تحديات محلية، أبانت على امتلاكها ” للقوة الموازية” من قبيل قيم العطاء والإيثار والتطوع وامتلاك مقومات الوعي الاجتماعي ، لذلك فإن التعاقدات التي تبني كل كيان نشيط داخل الدولة الوطنية مرحب بها، ومن واجب المجتمع والدولة معا الإصغاء إلى الإرادة الإجتماعية شريطة الاتفاق على القيم المشتركة، وعقلنة الهيمنة من خلال التوازن بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع.
يرتقي المجتمع المدني بالفرد من الوساطة إلى المشاركة في التنمية الوطنية بعيدا عن محاولة تصوير المجتمع المدني في حالة انفصال سلبي مع الدولة، وبمعزل عن الممارسات الهزيلة التي تحصر دور المجتمع المدني في الديمقراطية التشاركية ذات الطابع الرقابي على الديمقراطية التمثيلية، وإذا كانت القواعد الشعبية تعيش تحولا ثنائيا بين التحول الاجتماعي والتحول الديمقراطي، فإن من الواجب النأي بها عن جدلية الدولة والمجتمع المدني التي تتمظهر في المعضلة الضيقة بين المفاصلة أم التكامل، ومن متطلبات النضال المدني أن نحصن هذه القواعد الشعبية من النموذج المعلب للمجتمع المدني الذي إذا نجح في دول أخرى فإنه لا ينجح لدينا للاختلافات الجذرية بين الذات الإجتماعية والآخر الاجتماعي، فقد أثبتت تجارب الاستنساخ الجمعوي مدى الهشاشة التي عاشتها جمعيات وطنية ومحلية حين استوردت مشاريع مبتورة من سياقها.
لعل الضوابط المعيارية بين الانفصام والتمايز تقودنا قسرا إلى التساءل حول المجتمع المدني هل هو مكمل ديمقراطي أم ضرورة ديمقراطية؟، للإجابة على هذا السؤال وجب التخلص من الالتباس الذي لازال موجودا بين المجتمع المدني والمجتمع القومي، وبناء مؤسسات مدنية تتجاوز وشائج العرق واللغة والدين وما شئت من الملاذات الإديولوجية المشتركة، وهو طريق طويل يربط بين مرحلة ما قبل المواطنة إلى مرحلة ما بعد المواطنة، ومنطلق ذلك يرتكز على تكوين القيادات المدنية للمجتمع المحلي.
نركز على فن الإصغاء للإرادة الإجتماعية، فثمة حركية وجب الاستثمار في تحولاتها وامتلاك القدرة على تقديم تصورات تفسيرية، وتنفيذ الحلول والبدائل بدل الإكتفاء بتقديمها، لأن الإنحياز الحقيقي لصوت الشعب هو الانخراط في أرضية منظمة لتحقيق أهداف وطنية شاملة تبتعد عن المزايدة في البطولات الفردية، وتقترب أكثر من ممارسة المسؤولية الفردية، باعتبار أن المواطن التشاركي هو الفرد الذي ينزع إلى الحرية المسؤولة بشكل طوعي، وبذلك يتحول بشكل متميز من الفردية إلى المواطنة.
نوجه نداءنا تحت مظلة هذه المفاهيم لمن يتشارك معنا مقاصدها ومآلاتها، لك أنت أيها الجزائري بما تحوزه من اختلاف وثراء، كن صوتا شعبيا لتجسيد جمهورية المؤسسات، و انطلق معنا في مشروع التغيير من المسؤولية التي تشغلها في مجتمعك.
مروان طيب بشيري