يمارس ذهب الأرض إغواء متفردا على الكثير من الحالمين بحياة الرغد رغم الكثير من المخاطر التي تشوب ظروف استخراجه ، بدء من ردع القانون إلى محاذير الشرع وانطلاء حيل المحتالين على السذج من هواة استتباع الكنوزفي المقابر العتيقة وضفاف الأودية والآثار القديمة، و لعل الإفتتان بهذه الهواية ليس حكرا على فقير ولا على غني، ولا على متعلم دون جاهل ، فقد استوت شهوة العثور على القطع الذهبية عند نفر لا يستهان به من رواد المناكب بحثا عن قبر عتيق أو غشيان القفار تقصيا لما ردمته العصور القديمة من ثروات الغابرين، وفي هذا التحقيق يتوغل موقع الظل في أسرار هذا
العالم ضمن مناطق خنشلة للوقوف على واقع الكنوز والدفائن والتعرف على الرصد والمانع والشق والرفع وتحليل الرموز والاشارات التكنيزية، والاقتراب من الطرق المتبعة قديمها وحديثها من خلال التعرف على الجرن وأسياخ النحاس والتعاويذ والتمائم، و تسخير الجن والبخور، وطقوس الكشف التي يدعي بعض الشيوخ إلمامهم بأسرارها، كما نقف على سوق أجهزة التنقيب وتجارتها الخفية.
تتوزع المواقع الأثرية في ولاية خنشلة على امتداد يزيد عن950 هكتارا ، وتتداول الألسن قصص الدفائن بشكل غرائبي منمق بمبالغات الأساطير والحكايات المروية من جيل إلى جيل، في ظل وجود العديد من آثار العهد الروماني، ببلدية خيران و في سفوح جبال قرية" الهماجة "ضمن إقليم بلدية أولاد رشاش، و في المدينة الرومانية سيدياس التي تتربع على أكثر من 23 هكتار، وفي مدينة " بغاي" حيث لا زالت شواهد باقية من مدن وقصور ومقابر، إذ تتنوع المواقع بين فترات ما قبل التاريخ إلى جل الحضارات التي مرت من الرومان إلى عز الدولة الإسلامية، وهو ما يجعل من كنوز ودفائن خنشلة عرضة للنهب من الباحثين عنها، فلم يتركوا قبرا حجريا ولا معلما جنائزيا إلا و حفروه مثلما هو الحال مع الضريح الجنائزي بمنطقة تبعليين "وادي العرب" أين كانت عمليات الحفر تحدث جهارا نهار وبتواطؤ من سكان القرى، وطالت بقايا مقابر الدلمان من أجل الحصول على الأساور وعملات الذهب الخاصة بالفترات الرومانية والإسلامية.
تختلف طرق لصوص الأثار الذهبية في الحصول على مبتغاهم داخل مواقع الآثار في ولاية خنشلة، فمنهم من يلجأ إلى أجهزة التنقيب الحديثة من خلال تشكيل عصابات تعتمد على أقوى أجهزة البحث عن الكنوز مثل جهاز أجاكس بريمرو، والإعتماد على أعرق شركات الأجهزة مثل شركة قاريت وشركة مانلاب، بعدما كانوا يلجؤون بشكل تقليدي إلى الأسياخ النحاسية، ونظرا للمنع القانوني في اقتناء أجهزة الكشف والتنقيب عن المعادن، فإنها تدخل بطريقة غير شرعية مستفيدين من تقنياتها عبر الليزر أو التصوير الطبقي، إلا أن اليقظة الأمنية آلت في العديد من المرات إلى مصادرة هذه الاجهزة ومعاقبة مستعمليها لفرض القانون عقوبة صارمة على التنقيب عن الدفائن، ورغم صرامة القانون في حضر الحفريات في المواقع الأثرية، إلا أن استعمال هذه الاجهزة في تحديد الحفر العشوائي قد خرب العديد من المواقع الأثري و دمر اللقى الأثرية التي تحتوي عليها في جريمة لا يمكن تعويض خسائرها بمئات الكنوز.
أما الطريقة الثانية التي تعرفنا عليها فتكمن في اللجوء إلى " الطلبة" في استخراج الأواني الفخارية القديمة المعبئة بقطع الذهب والأجران والأواني المعدنية النفيسة، وتكمن في الإصغاء إلى الإشارات والعلامات المحفورة على الصخر في حواف الموقع الأثري مثل علامة الهلال ونجمة داوود وتتبع أشكال الحيوانات والأسهم التي تقود إلى الدفين بمساعدة الشيخ الفتاح او الذي تربطه علاقة بالجن استعانة أو تسخيرا، حيث يحل الطالب او الحكيم محل جهاز الكشف ، فيكون الكشف روحانيا حين يعدم الباحث الوسائل التكنولوجية.
تتعدد المرويات التاريخية التي تحكي رغائب الرومانيين في دفن مقتنياتهم الثمينة بغية العودة إليها بعد حقبة من الزمن، كما تتنوع الحكايات حول بعض الأشخاص من الذين عثروا على كنوز مما يعلل الغنى المفاجئ الذي أصبحوا ينعمون فيه، وظهور علامات الثراء الطارئ في حياتهم بوقوعهم على دفين في المواقع الأثرية المبثوثة في بلديات الولاية، وكثيرا ما تكون الطريقة حسب مرويات اهل المنطقة عبر استعمال الطلبة أو الحكماء ممن يتوشحون هنداما دينيا، إلا أن كثير من التجارب أثبتت خرافة اللجوء إلى ماورائيات لا تتجاوز الحكاية الشعبية التي تفتقر للبراهين، وثبوت طابع الاحتيال على هؤلاء " الطلبة" الذي خدعوا الناس باسم الدين.
يلجأ المحتالون إلى إدعاء مقدرتهم على تحديد موضع الدفين من خلال الكشف الروحاني ويتمتمون بآيات من سورة الأعراف والبخار يتصاعد بعد عملية التربيع من اجل عملية الشق، ثم يهمهمون بآيات من سورة الأنفال من أجل عملية الرفع، وهي سحب الذهب من باطن الأرض إلى ظاهرها، ويدعون وجود الرصد، والرصد عادة ما يكون من العفاريت الحارسة للذهب حيث ينجذب العفريت للذهب الذي لم تمسسه حواس البشر لأقل من ثلاثين سنة على حد زعم الطلبة المشتغلين في استتباع الدفائن، ويتلبس المانع هيئة ثعبان أسود أو عقرب يدب حول الحفرة، إلا أن القدماء يلجؤون لرسم الثعابين والحيات كسلوك تشرحه الميثولوجيا كبشارة على الحياة بعد الموت، وليست تلك الرسومات دائما دليلا على وجود الذهب في الموقع الجنائزي، عكس ما يشاع في أوساط الباحثين عن الدفائن من اعتقاد مفاده أن موتى الحضارات القديمة يدفنون كنوزهم معهم ليعينوا أنفسهم على نفقة الروح بعد عودتها للجسد في الحياة الأخرى.
وجدنا الكثير من أنواع الخدع والتلبيسات، مثل تلك الخدعة التي تقوم على إيهام أحدهم بوجود كنز في بيته و يعرضون عليه المشاركة فيه من خلال استخراجه وحصولهم على جزء من الكنز، فيطلبون بعد النجاح في استدراجه بعض الأموال من أجل الطالب أو الحكيم ولشراء بعض العقاقير وأنواع البخور النادرة من اليمن و المغرب، ويبررون غلاء ثمنها بسبب قدرة تلك العقاقير على طرد المانع أو قتله، ثم يحصلون على الأموال ويدعون بأن المارد كان قويا واضطرهم لخرجة أخرى ثم يختفون بعد النصب على أموال الباحث المخدوع.
في مواقع خنشلة الزاخرة بالتاريخ، قد يطول الحفر ويتوقف عند صفيح صخري و لا أثر للدفين، فيقع المخربون غالبا في الخطأ في نقطة الحفر، مخلفين واقعا أثريا ينزف بين الخرافة وتحطيم تراث عريق وسرقته بسبب الطمع و غياب الحس الوطني تجاه شواهد حضاراتنا التي لا تقدر بالقناطير المقنطرة من الذهب والأحجار الكريمة.